المجال الرابع: الإخلاص.
آيات الصوم بدأها الله بنداء المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) [البقرة: من الآية183].
ثم أتبعها بحكم الصيام، فقال: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )) [البقرة: من الآية183].
ومقتضى الإيمان أن يخلص الصائمون نيتهم في صومهم لله الذي فرض عليهم هذه العبادة، كغيرها من العبادات.
والأصل في كل عبادة يؤديها المسلم لربه، أن يكون مخلصاً فيها له، لا يشوبها شيء من إرادة غيره تعالى؛ لأن إرادة غير الله يعتبر نوعاً من أنواع الشرك، إما شركاً أكبر، كالسجود للأصنام أو القبور، ومثله إراقة دم الحيوان لغير الله على سبيل العبادة، وإما شركاً أصغر، كالرياء...
ويشمل ذلك كله قوله تعالى: (( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )) [النساء (36)].
وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة، تحض على الإخلاص بمادته،كقوله تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )) [البينة (5)].
وقوله تعالى: (( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ )) [الأعراف (29)]
وقوله تعالى: (( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )) [غافر:13-14].
وكثير من الناس قد يظن أن الإخلاص لله تعالى أمر سهل لا صعوبة فيه، وهو ظن مبالغ فيه، لأن إخلاص العمل لله يحتاج من العامل إلى مجاهدة نفسه، حتى يُصًفِّيَ عملَه من شوائب إرادة غير الله..
إذ النفوس البشرية ترغب في ثناء الناس عليها، وعلى ما تقوم به من أعمال الخير، وقد يغلب حب العبد لذلك على الإخلاص لله، وذلك من أهم عوامل القدح في إخلاصه لربه.
لهذا وردت النصوص في الحث على الإخلاص بصفة عامة، كما مضى..
ووردت نصوص في ذم الرياء في الأعمال كذلك، وتشبيه صاحبه بمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر..
كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )) [البقرة:264].
ونهى تعالى المؤمنين المجاهدين، أن يتشبهوا بالمشركين في ريائهم، فقال تعالى: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) [الأنفال:47].
وكثير من العبادات تفتتح بما يذكر العبد بالإخلاص فيها لله تعالى، ويقويه في نفسه.
ومن أمثلة ذلك الصلاة التي تبدأ بتكبيرة الإحرام: ( الله أكبر ) فالمصلي إذا وفقه الله لمراعاة هذه الجملة وما تحمله من عظمة الله، أُعِينَ على الإخلاص في صلاته من أولها إلى آخرها، فلا يلتفت إلى غيره بل ينجو من الرياء، مع أن الصلاة كلها لا تخلو من ذكر الله، في القيام والقعود والسجود..
وكذلك الحج، الذي يبدأ بقول الحاج أو المعتمر: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ) ثم يستمر ذاكرا حتى يودع البيت الحرام ،،، مع حثه على الاستمرار على ذكر الله.
و "الجهاد" قُيِّدَ بهذا القيد "في سبيل الله" فإذا خلا من هذا القيد، لم يعد جهاداً شرعياً، كما صحت بذلك الأحاديث. ومنها:
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال:
"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي الله العليا فهو في سبيل الله ) [البخاري (6/2714) ومسلم (3/1512)].
وجميع العبادات لا يعلم إخلاصَ صاحبِها فيها إلا اللهُ، ومنها الصيام الذي قد يظهر صاحبه أنه صائم لله تعالى، وعلى الناس أن يعاملوه بالظاهر،كالصلاة والحج والجهاد وكل العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى الله، وقد يكون في علم الله غير صائم، أو انه صام لغرض آخر، وليس لوجه ربه...
ولهذا جاء تكليف الله عباده بالصيام بادئاً، بهذا النداء: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام )) كما مضى.
وأكدت ذلك أحاديثُ صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه...) [البخاري (2/534) مسلم (2/729)].
واضح من الحديث، أنه لا يترتب على قيام ليلة القدر وصوم رمضان، الثواب الموعود به ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) في الحالين، إلا إذا تحقق قائم ليلة القدر، وصائم رمضان، أمران:
الأول:
أن يكون فعل ذلك إيمانا بالله تعالى وبرسوله وباليوم الآخر، وبأن الله تعالى كلفه القيام بهاتين العبادتين.
الثاني:
أن يقصد بقيامه وصيامه وجه الله تعالى، وليس لغرض آخر، كرئاء الناس، من أجل أن يثنوا عليه، فيقال: فلان صائم، أو مجتهد في طلب الأجر من الله في قيام ليلة القدر أو غيرها.
فعلى المسلم أن يجاهد نفسه في أن يكون صيامه وقيامه وقراءته لكتاب الله، وصدقاته، وكل أعمال الخير التي يقوم بها، مراداً بها وجه الله، الذي لا ينفعه ولا يضره إلا الله، ولا يثيبه ويجزيه على عمله إلا الله تعالى، وأنه تعالى مطلع على السر وأخفى.
اللهم وفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك..
والعمل الذي يجتمع فيه الإخلاص لك..
والاتباع لنبيك عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
--------------------------------------------------------------------------------
المجال الخامس: قيام الليل.
شهر رمضان كغيره ظرف لأداء الفرائض والنوافل، إلا أنه يزيد على بقية الشهور، بزيادة فرض صيامه، وكثرة نوافله ومضاعفة حسناته.
والواجب على المسلم المحافظة على ما فرض الله عليه من عباداته، التي لا يسقط حكمها عنه في جميع الأوقات، كالصلوات الخمس التي هي ركن من أركان الإسلام.
وينبغي أن يكون في محافظته على تلك الفرائض في رمضان، أشد حرصا من محافظته عليها في غير رمضان، لأن أجره مضاعف على عبادته في هذا الشهر الكريم، وأداء الفرائض أحب إلى الله من أداء غيرها، وإن كان كلاهما محبوبا له تعالى.
كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (...... وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه .........) البخاري (5/2384)
فلا يجوز للصائم التساهل في أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، بالنوم عنها حتى يخرج وقتها، متذرعا بما يقوم به من نوافل الطاعات، كصلاة التراويح.
بل لو فرض أن صلاة التراويح وهي نافلة، كانت سببا في نومه عن صلاة الفجر حتى يخرج وقتها، وجب عليه التخفيف من صلاة التراويح بالقدر الذي يتمكن معه، من أداء صلاة الفجر في وقتها،،،،،،
والمحافظة على الصلاة المفروضة في الجماعة في المساجد، أولى من المحافظة على التراويح في ذلك، إذا فرض أن المسلم لا يستطيع الجمع بينهما,,,,
مع العلم أنه – في الغالب – يستطيع الجمع بين الأمرين، وهذا هو الذي ينبغي أن يجتهد في فعله في حدود طاقته، ليجمع بين الفضيلتين في شهر الفضائل.
أما الذي يقصر في الأمرين أو في أحدهما، مشتغلا بتوافه الأمور عنهما، فهذا شخص مُفَرِّط محروم، جدير أن يعود على نفسه بالندم واللوم، لأنه تعمد أن يخسر في موسم الغنائم والأرباح، فاستبدل الخيبة والأحزان، بالمراحم والأفراح.
ولنعد إلى الكلام عن قيام الليل، فهو مشروع في كل ليلة من ليالي عمر المسلم، وقد كان في أول الأمر مفروضا، على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن فيه تسلية لهم عما كان يصيبهم من الفتنة والأذى، عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تولت السيرة النبوية تفاصيل تلك الفتنة وذلك الأذى، فكان في كثرة لجوئهم إلى الله ومناجاته وقوة الصلة به، ما يفرغ على قلوبه الصبر، وعلى نفوسهم الطمأنينة والثقة بالعزة والنصر.
قال تعالى: ((ياأيها المزمل(1)قم الليل إلا قليلا(2)نصفه أو انقص منه قليلا(3)أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا(4)إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا(5)إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا(6)إن لك في النهار سبحا طويلا(7)واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا(8)رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا)) (9) [المزمل]
قال سيد قطب رحمه الله ـ عند قوله تعالى: ((إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)) [المزمل: 5]: "وإن قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها، والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل، بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي.
إن هذا كله، هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير، الذي ينتظر الرسول، وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير). [في ظلال القرآن (29/3745)].
قال ابن جرير : "عن ابن عباس في قوله: ((قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)): فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل، إلا قليلا فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم، فرحمهم وأنزل الله بعد هذا: ((علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض)) إلى قوله: ((فاقرءوا ما تيسر منه)) فوسع الله وله الحمد، ولم يضيق" [تفسير الطبري (29/125) ويراجع تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: (4/436)]
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، شديد الحرص على قيام الليل، شديد الاجتهاد في ذلك، فكان يقوم حتى تتورم قدماه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر طمعا في أن يكون كثير الشكر لربه.
كما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتَكَلَّفُ هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال (أفلا أكون عبدا شكورا)؟ [البخاري (1/380) ومسلم(4/2171)]
وكان كذلك شديد الحرص على قيام أصحابه بصلاة الليل، ليكونوا من عباد الله الصالحين، ولينالوا مغفرة الله ورحمته، كما روى أبو أمامة الباهلي، عنه صلى الله عليه وسلم، قال: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاة عن الإثم) [سنن الترمذي (5/552) والمستدرك على الصحيحين (1/451)وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" وهو في صحيح ابن خزيمة (2/176)
هذا في قيام الليل بصفة عامة...
ولرمضان خصوصيته في قيام الليل.
كان من الغالب المعتاد أن يصلي الرسول صلى الله عليه وسلم، النوافل الراتبة وغير الراتبة، في منزله، ومنها قيام الليل في جوف الليل، كما قال لمعاذ بن جبل: (...إن شئت أنبأتك بأبواب الجنة) قلت: أجل يا رسول الله قال: (الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله) قال ثم قرأ هذه الآية: ((تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون)) [جزء من حديث طويل، أخرجه الترمذي (5/11) والحاكم في المستدرك (2/447) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"]
ولكنه صلى الله عليه وسلم، خص رمضان بالقيام في مسجده، والظاهر أنه أراد أن يقتدي به أصحابه، و يجتهدوا في العبادة هذا الشهر الكريم، كما يرونه يجتهد فيه، وقد توافد أصحابه عندما علموا ذلك إلى المسجد للصلاة وراءه، وزاد عددهم ليلة بعد أخرى، فخشي صلى الله عليه وسلم عليهم المشقة عليهم، أو ظنهم أنها مفروضة
روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح، قال: (قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، وذلك في رمضان) [البخاري (1/380)]
ثم صلى الصحابة رضي الله عنهم، قيام الليل في رمضان بعد وفاة رسولنا الكريم صلى الله علبيه وسلم، في مسجده فرادى أو جماعات، بعد وفاته، فلما رآهم عمر يفعلون ذلك جمعهم على إمام واحد يصلون خلفه جماعة، لأنهم أمنوا ما كان يخشاه من كتابة قيام رمضان عليهم، لانقطاع الوحي...
روى عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: "والله إني لأراني لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل" فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس [لعله: "وراء"] قارئهم فقال عمر: "نعمت البدعة هذه، وتلك التي تنامون عنها، أفضل من التي تقومون، يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله [الموطأ (1/114)
وقوله : "نعمت البدعة" ليس المراد أنها بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يتهم بعض الفرق بذلك عمر رضي الله عنه، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أقر أصحابه على صلاتهم بعده، ثلاث ليال أو أربعا، وإنما لم يستمر بهم على ذلك، لعلة ذكرها لهم، وهي (ولم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم)
فالبدعة المذمومة هي التي لا أصل لها في الشرع، أما ما له أصل، فإطلاق البدعة عليه إطلاق لغوي لا شرعي.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك قيام رمضان، قد قال: (إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) وقام في أول الشهر بهم ليلتين، وقام في آخر الشهر ليالي، وكان الناس يصلون على عهده في المسجد فرادى وجماعات، لكن لم يداوم بهم على الجماعة، خشية أن تفرض عليهم، وقد أمن ذلك بموته. وقد قال في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي وغيره: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فان كل بدعة ضلالة)
فما سنه الخلفاء الراشدون، ليس بدعة شرعية ينهى عنها، وإن كان يسمى في اللغة بدعة، لكونه ابتدئ، كما قال عمر: "نعمت البدعة هذه..." [مجموع الفتاوى (21/319) يراع تفسير القرطبي 02/87)]
آيات الصوم بدأها الله بنداء المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) [البقرة: من الآية183].
ثم أتبعها بحكم الصيام، فقال: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )) [البقرة: من الآية183].
ومقتضى الإيمان أن يخلص الصائمون نيتهم في صومهم لله الذي فرض عليهم هذه العبادة، كغيرها من العبادات.
والأصل في كل عبادة يؤديها المسلم لربه، أن يكون مخلصاً فيها له، لا يشوبها شيء من إرادة غيره تعالى؛ لأن إرادة غير الله يعتبر نوعاً من أنواع الشرك، إما شركاً أكبر، كالسجود للأصنام أو القبور، ومثله إراقة دم الحيوان لغير الله على سبيل العبادة، وإما شركاً أصغر، كالرياء...
ويشمل ذلك كله قوله تعالى: (( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )) [النساء (36)].
وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة، تحض على الإخلاص بمادته،كقوله تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )) [البينة (5)].
وقوله تعالى: (( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ )) [الأعراف (29)]
وقوله تعالى: (( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )) [غافر:13-14].
وكثير من الناس قد يظن أن الإخلاص لله تعالى أمر سهل لا صعوبة فيه، وهو ظن مبالغ فيه، لأن إخلاص العمل لله يحتاج من العامل إلى مجاهدة نفسه، حتى يُصًفِّيَ عملَه من شوائب إرادة غير الله..
إذ النفوس البشرية ترغب في ثناء الناس عليها، وعلى ما تقوم به من أعمال الخير، وقد يغلب حب العبد لذلك على الإخلاص لله، وذلك من أهم عوامل القدح في إخلاصه لربه.
لهذا وردت النصوص في الحث على الإخلاص بصفة عامة، كما مضى..
ووردت نصوص في ذم الرياء في الأعمال كذلك، وتشبيه صاحبه بمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر..
كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )) [البقرة:264].
ونهى تعالى المؤمنين المجاهدين، أن يتشبهوا بالمشركين في ريائهم، فقال تعالى: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) [الأنفال:47].
وكثير من العبادات تفتتح بما يذكر العبد بالإخلاص فيها لله تعالى، ويقويه في نفسه.
ومن أمثلة ذلك الصلاة التي تبدأ بتكبيرة الإحرام: ( الله أكبر ) فالمصلي إذا وفقه الله لمراعاة هذه الجملة وما تحمله من عظمة الله، أُعِينَ على الإخلاص في صلاته من أولها إلى آخرها، فلا يلتفت إلى غيره بل ينجو من الرياء، مع أن الصلاة كلها لا تخلو من ذكر الله، في القيام والقعود والسجود..
وكذلك الحج، الذي يبدأ بقول الحاج أو المعتمر: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ) ثم يستمر ذاكرا حتى يودع البيت الحرام ،،، مع حثه على الاستمرار على ذكر الله.
و "الجهاد" قُيِّدَ بهذا القيد "في سبيل الله" فإذا خلا من هذا القيد، لم يعد جهاداً شرعياً، كما صحت بذلك الأحاديث. ومنها:
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال:
"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي الله العليا فهو في سبيل الله ) [البخاري (6/2714) ومسلم (3/1512)].
وجميع العبادات لا يعلم إخلاصَ صاحبِها فيها إلا اللهُ، ومنها الصيام الذي قد يظهر صاحبه أنه صائم لله تعالى، وعلى الناس أن يعاملوه بالظاهر،كالصلاة والحج والجهاد وكل العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى الله، وقد يكون في علم الله غير صائم، أو انه صام لغرض آخر، وليس لوجه ربه...
ولهذا جاء تكليف الله عباده بالصيام بادئاً، بهذا النداء: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام )) كما مضى.
وأكدت ذلك أحاديثُ صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه...) [البخاري (2/534) مسلم (2/729)].
واضح من الحديث، أنه لا يترتب على قيام ليلة القدر وصوم رمضان، الثواب الموعود به ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) في الحالين، إلا إذا تحقق قائم ليلة القدر، وصائم رمضان، أمران:
الأول:
أن يكون فعل ذلك إيمانا بالله تعالى وبرسوله وباليوم الآخر، وبأن الله تعالى كلفه القيام بهاتين العبادتين.
الثاني:
أن يقصد بقيامه وصيامه وجه الله تعالى، وليس لغرض آخر، كرئاء الناس، من أجل أن يثنوا عليه، فيقال: فلان صائم، أو مجتهد في طلب الأجر من الله في قيام ليلة القدر أو غيرها.
فعلى المسلم أن يجاهد نفسه في أن يكون صيامه وقيامه وقراءته لكتاب الله، وصدقاته، وكل أعمال الخير التي يقوم بها، مراداً بها وجه الله، الذي لا ينفعه ولا يضره إلا الله، ولا يثيبه ويجزيه على عمله إلا الله تعالى، وأنه تعالى مطلع على السر وأخفى.
اللهم وفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك..
والعمل الذي يجتمع فيه الإخلاص لك..
والاتباع لنبيك عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
--------------------------------------------------------------------------------
المجال الخامس: قيام الليل.
شهر رمضان كغيره ظرف لأداء الفرائض والنوافل، إلا أنه يزيد على بقية الشهور، بزيادة فرض صيامه، وكثرة نوافله ومضاعفة حسناته.
والواجب على المسلم المحافظة على ما فرض الله عليه من عباداته، التي لا يسقط حكمها عنه في جميع الأوقات، كالصلوات الخمس التي هي ركن من أركان الإسلام.
وينبغي أن يكون في محافظته على تلك الفرائض في رمضان، أشد حرصا من محافظته عليها في غير رمضان، لأن أجره مضاعف على عبادته في هذا الشهر الكريم، وأداء الفرائض أحب إلى الله من أداء غيرها، وإن كان كلاهما محبوبا له تعالى.
كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (...... وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه .........) البخاري (5/2384)
فلا يجوز للصائم التساهل في أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، بالنوم عنها حتى يخرج وقتها، متذرعا بما يقوم به من نوافل الطاعات، كصلاة التراويح.
بل لو فرض أن صلاة التراويح وهي نافلة، كانت سببا في نومه عن صلاة الفجر حتى يخرج وقتها، وجب عليه التخفيف من صلاة التراويح بالقدر الذي يتمكن معه، من أداء صلاة الفجر في وقتها،،،،،،
والمحافظة على الصلاة المفروضة في الجماعة في المساجد، أولى من المحافظة على التراويح في ذلك، إذا فرض أن المسلم لا يستطيع الجمع بينهما,,,,
مع العلم أنه – في الغالب – يستطيع الجمع بين الأمرين، وهذا هو الذي ينبغي أن يجتهد في فعله في حدود طاقته، ليجمع بين الفضيلتين في شهر الفضائل.
أما الذي يقصر في الأمرين أو في أحدهما، مشتغلا بتوافه الأمور عنهما، فهذا شخص مُفَرِّط محروم، جدير أن يعود على نفسه بالندم واللوم، لأنه تعمد أن يخسر في موسم الغنائم والأرباح، فاستبدل الخيبة والأحزان، بالمراحم والأفراح.
ولنعد إلى الكلام عن قيام الليل، فهو مشروع في كل ليلة من ليالي عمر المسلم، وقد كان في أول الأمر مفروضا، على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن فيه تسلية لهم عما كان يصيبهم من الفتنة والأذى، عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تولت السيرة النبوية تفاصيل تلك الفتنة وذلك الأذى، فكان في كثرة لجوئهم إلى الله ومناجاته وقوة الصلة به، ما يفرغ على قلوبه الصبر، وعلى نفوسهم الطمأنينة والثقة بالعزة والنصر.
قال تعالى: ((ياأيها المزمل(1)قم الليل إلا قليلا(2)نصفه أو انقص منه قليلا(3)أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا(4)إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا(5)إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا(6)إن لك في النهار سبحا طويلا(7)واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا(8)رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا)) (9) [المزمل]
قال سيد قطب رحمه الله ـ عند قوله تعالى: ((إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)) [المزمل: 5]: "وإن قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها، والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل، بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي.
إن هذا كله، هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير، الذي ينتظر الرسول، وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير). [في ظلال القرآن (29/3745)].
قال ابن جرير : "عن ابن عباس في قوله: ((قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)): فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل، إلا قليلا فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم، فرحمهم وأنزل الله بعد هذا: ((علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض)) إلى قوله: ((فاقرءوا ما تيسر منه)) فوسع الله وله الحمد، ولم يضيق" [تفسير الطبري (29/125) ويراجع تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: (4/436)]
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، شديد الحرص على قيام الليل، شديد الاجتهاد في ذلك، فكان يقوم حتى تتورم قدماه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر طمعا في أن يكون كثير الشكر لربه.
كما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتَكَلَّفُ هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال (أفلا أكون عبدا شكورا)؟ [البخاري (1/380) ومسلم(4/2171)]
وكان كذلك شديد الحرص على قيام أصحابه بصلاة الليل، ليكونوا من عباد الله الصالحين، ولينالوا مغفرة الله ورحمته، كما روى أبو أمامة الباهلي، عنه صلى الله عليه وسلم، قال: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاة عن الإثم) [سنن الترمذي (5/552) والمستدرك على الصحيحين (1/451)وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" وهو في صحيح ابن خزيمة (2/176)
هذا في قيام الليل بصفة عامة...
ولرمضان خصوصيته في قيام الليل.
كان من الغالب المعتاد أن يصلي الرسول صلى الله عليه وسلم، النوافل الراتبة وغير الراتبة، في منزله، ومنها قيام الليل في جوف الليل، كما قال لمعاذ بن جبل: (...إن شئت أنبأتك بأبواب الجنة) قلت: أجل يا رسول الله قال: (الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله) قال ثم قرأ هذه الآية: ((تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون)) [جزء من حديث طويل، أخرجه الترمذي (5/11) والحاكم في المستدرك (2/447) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"]
ولكنه صلى الله عليه وسلم، خص رمضان بالقيام في مسجده، والظاهر أنه أراد أن يقتدي به أصحابه، و يجتهدوا في العبادة هذا الشهر الكريم، كما يرونه يجتهد فيه، وقد توافد أصحابه عندما علموا ذلك إلى المسجد للصلاة وراءه، وزاد عددهم ليلة بعد أخرى، فخشي صلى الله عليه وسلم عليهم المشقة عليهم، أو ظنهم أنها مفروضة
روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح، قال: (قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، وذلك في رمضان) [البخاري (1/380)]
ثم صلى الصحابة رضي الله عنهم، قيام الليل في رمضان بعد وفاة رسولنا الكريم صلى الله علبيه وسلم، في مسجده فرادى أو جماعات، بعد وفاته، فلما رآهم عمر يفعلون ذلك جمعهم على إمام واحد يصلون خلفه جماعة، لأنهم أمنوا ما كان يخشاه من كتابة قيام رمضان عليهم، لانقطاع الوحي...
روى عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: "والله إني لأراني لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل" فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس [لعله: "وراء"] قارئهم فقال عمر: "نعمت البدعة هذه، وتلك التي تنامون عنها، أفضل من التي تقومون، يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله [الموطأ (1/114)
وقوله : "نعمت البدعة" ليس المراد أنها بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يتهم بعض الفرق بذلك عمر رضي الله عنه، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أقر أصحابه على صلاتهم بعده، ثلاث ليال أو أربعا، وإنما لم يستمر بهم على ذلك، لعلة ذكرها لهم، وهي (ولم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم)
فالبدعة المذمومة هي التي لا أصل لها في الشرع، أما ما له أصل، فإطلاق البدعة عليه إطلاق لغوي لا شرعي.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك قيام رمضان، قد قال: (إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) وقام في أول الشهر بهم ليلتين، وقام في آخر الشهر ليالي، وكان الناس يصلون على عهده في المسجد فرادى وجماعات، لكن لم يداوم بهم على الجماعة، خشية أن تفرض عليهم، وقد أمن ذلك بموته. وقد قال في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي وغيره: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فان كل بدعة ضلالة)
فما سنه الخلفاء الراشدون، ليس بدعة شرعية ينهى عنها، وإن كان يسمى في اللغة بدعة، لكونه ابتدئ، كما قال عمر: "نعمت البدعة هذه..." [مجموع الفتاوى (21/319) يراع تفسير القرطبي 02/87)]