سبق أن الصحيح أن في المال حقا سوى الزكاة... وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به).
وفي هذه الحلقة نريد أن نذكر أنفسنا، بأنه لا يوجد مسلم في الأرض، بدون أن يكون له جيران محتاجون وكثير منهم يبيتون جياعا، والجار قد يكون قريبا من دار جاره، وقد يكون بعيدا، والقرب والبعد أمر نسبي، وذكر بعض العلماء أن حد الجيرة أربعون داراً من كل ناحية، ونقل عن آخرين أن من سمع النداء فهو جار. [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/185)].
وكلما كانت دار الجار أقرب إلى دار جاره، كان أهلها أكثر استحقاقا لإحسانه من غيرهم...
وبتصور هذا الحد يظهر أن الجيرة تشمل مدنا بأسرها، لأن الذي لا يكون جارا للمرء، يكون جارا لجاره، وهكذا، فإذا لم ينل المرء إحسان رجل لكونه ليس جارا له، ربما ناله إحسانه على يد جار المحسن، ماديا كان كالهدايا والهبات، أو معنويا كالتعليم والقدوة الحسنة والأخلاق الحميدة، فإن الجار يؤثر في جاره، وهذا يؤثر في جيرانه وهكذا.
تصور لو أن كل مسلم وأسرته اجتهدوا في إيصال إحسانهم إلى أربعين داراً من جيرانهم من جميع الجهات المحيطة بدارهم، وهذا الإحسان كما تقدم يشمل الإحسان المادي والإحسان المعنوي، كيف سيكون حال المجتمع الإسلامي في تعاونه وتحابه وأمنه؟
ومعلوم أن كثيرا من المحتاجين أعزاء نفوس، يصعب عليهم إظهار حاجتهم للناس، فضلا عن طلب الإحسان إليهم، وأمثال هؤلاء ينبغي لمن أغناهم الله من فضله، أن يطرقوا أبوابهم على غفلة من الناس، ويعطوهم من مال الله الذي آتاهم، بطريقة لا تشعرهم بالدون:
((للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)) [البقرة (273)]
قال القرطبي: "واختلف العلماء في معنى قوله ((لا يسألون الناس إلحافا)) على قولين: فقال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لايسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.
وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم أي يسألون غير ملحفين" [الجامع لأحكام القرآن (3/342)]
وقد خص البخاري رحمه الله، هذه الآية بباب مستقل، فقال: "باب قول الله تعالى لا يسألون الناس إلحافا.... لقول الله تعالى: ((للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله)) إلى قوله ((فإن الله به عليم)) ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى، ويستحيي أو لا يسأل الناس إلحافا) [صحيح البخاري برقم (1406) والحديث في صحيح مسلم (2/719) بلفظ:(ليس المسكين بالذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين المتعفف اقرؤا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافا)]
وليس المقصود عدم إعطاء السائل ولو ألحف، بل المقصود الاهتمام أكثر بغير السائلين، أو الذين يسألون على استحياء لشدة حاجتهم..
والأصل في الزكاة والصدقات أن تصرف في المحتاجين من أهل البلد، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (... فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم...) [البخاري برقم (1389) ومسلم برقم(19)]
وقد يفيض المال في بعض البلدان الإسلامية، أو يكون المسلمون في آخر، أشد ضرورة، من أهل البلد الزكاة والصدقة، فيجب أن يوازن بين المصالح، وتقدم أعظم المصلحتين، وبين المفاسد، فتدرأ أعظم المفسدتين.
ولإيضاح هذه المسألة لا بد من ذكر أمثلة واقعة في عصرنا هذا، لتطبيق الحكم الشرعي عليها:
إن الذي يشاهد أحوال المسلمين اليوم في فلسطين، فيرى أهلها وقد هدمت منازلهم، فلا يجدون المأوى في شدة الحر أو البرد، ويراهم يتضورون جوعا، نساء وأطفالا وشيوخا، فلا يجدون لقمة العيش، ويراهم وقد أثخنتهم الجراح، وفتكت بهم الأمراض، فلا يجدون الدواء، وأعداؤهم يقصفونهم ليلا ونهارا، بأشد الأسلحة فتكا، من البر والجو والبحر...
إن الذي يشاهد ذلك، ثم ينظر إلى كثير من بلدان المسلمين التي لا تخلو من فقراء ومحتاجين، ثم يوازن بين الجهتين، يجد أن المحتاجين في غير الشعب الفلسطيني يجد غالبهم ما يسد رمقه من الطعام، وما يكنه من المأوى الضروري.
لهذا يجب على أغنياء الأمة، أن يوازنوا بين الفئتين، فيعطوا أهل بلد الزكاة الحد الأدنى الذي يخفف حاجتهم، ويجتهدوا في إيصال غالب زكاتهم وصدقاتهم، إلى الشعب الفلسطيني الذي تلك حاله، فهو في حالة ضرورة وغيره في حالة حاجة، أو ضرورة أخف.
يضاف إلى ذلك أنهم يقومون بجهاد أعداء الله اليهود، الذين جهادهم فرض عين على جميع المسلمين، حتى يدفع عدوانهم، ويطردوا من الأرض المباركة التي احتلوها بغير حق...
تنبيه مهم جدا
ومما يجب التنبيه عليه، أن الجهاد في سبيل الله –خاصة في فلسطين-هو فرض عين اليوم على جميع المسلمين، ولكن عقبات كثيرة تمنع من يريد أن يجاهد بنفسه مباشرة في صف إخوانه الفلسطينيين، وأعظم تلك العقبات، حراسة الجيوش العربية لليهود، في الحدود المحيطة باليهود.
لهذا لم يبق إلا الجهاد بالمال، الذي لا عذر لمسلم قادر عليه، في تأخره عنه، فيجب على كل قادر أن يبذل ما يقدر عليه من المال، لنصرة إخوانه المجاهدين، الذين زلزلوا الأرض من تحت أقدام اليهود، في حدود إمكاناتهم الضعيفة، مع ما يملكه عدوهم من سلاح فتاك، وجيش قوي.
وكل مسلم قادر على إنفاق ماله في سبيل الله، لهؤلاء المجاهدين فهو آثم، ويجب أن يجتهد من يريد الإنفاق في سبيل الله، في وضع ماله في الأيدي الأمينة التي توصله إلى المجاهدين في سبيل الله.
ومعلوم ما يقوم به أهل العدوان وبخاصة لحكومة الأمريكية، من ملاحقة أهل الأموال الذين يعينون بها المجاهدين، ويسجلونهم في قائمة ما يسمونه "الإرهابيين" ويجمدون أموالهم، ويقومون باختطاف بعضهم أو اغتيالهم، ولكن هذا لا يسوغ لهم الكف عن إنفاق أموالهم في سبيل الله، وإعانة أولئك المجاهدين.
وإذا كانت أمريكا تتخذ وسائل قوتها، وتستعين على عدوانها بعملائها في كثير من البلدان الإسلامية، فالواجب على أغنياء الأمة أن يتخذوا كل حيلة تحبط مؤامرة المحاربين للإسلام والمسلمين، ولا بد إذا كانوا صادقين، أن يجدوا من المخارج ما يؤدون به الواجب الذي فرضه الله تعالى عليهم، وقد وعد الله المتقين من عباده، بأن يهيئ لهم مخرجا... كما قال تعالى: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجا)) [الطلاق (2)] ((ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا)) [الطلاق (4)]
وإنه لمن المؤسف، أن نرى كثيرا من الأغنياء، لا يهتمون في إنفاق أموالهم، إلا بإغاثة من سقط في حُفَر الجوع والعطش والمرض والتشريد، ولا يهتمون بهؤلاء قبل أن يسقطوا في تلك الحفر. كيف؟
إن كثيرا ممن يعانون من تلك الْمحن، كانوا من الأغنياء الأصحاء المستقرين في منازلهم، ولكنهم تعرضوا للعدوان من الظلمة المعتدين، كحال الفلسطينيين الذين اغتصب أرضهم اليهود، فقتلوهم، وشردوهم، وجرحوهم، وحاصروهم حتى أجاعوهم... وبعد أن وصلوا إلى هذه الحال، بدأ الأغنياء يهتمون بهم بعض الاهتمام، لإغاثتهم بالطعام والشراب والدواء...
ولو أنهم اهتموا بهم قبل أن ينال منهم العدو هذا النيل الظالم، فبذلوا لهم المال الذي يوفر لهم السلاح الذي لا خلاص لهم من العدوان بدونه، لكان لهم شأن آخر غير ماهم فيه الآن.
وهذه ظاهرة مؤلمة في الأمة الإسلامية، يرى كثير من أغنيائهم المظلوم المعتدى عليه، يهينه عدوه ويذله، وهو قادر على الدفاع عن نفسه، لو أتيح له العون المادي الذي يوفر له السلاح، فلا يلتفتون إلى نصرته بذلك، حتى إذا شرده العدو، وأصبح في حاجة إلى المأوى والطعام والشراب والدواء، تنادوا لجمع التبرعات، ليقيموا له الخيام، ويحضرون له ما تيس من أنواع الإغاثة...
أيهما أولى: وقاية المظلوم بعونه قبل أن يصل إلى هذه الحال السيئة، أم التفرج عليه وهو يهان ويذل ثم يقرب له حفنة من الأرز وقاروة من الماء؟
إني أحث أغنياء الأمة أن يضعوا أنفسهم مكان إخوانهم في فلسطين، في هذه الأيام المباركة، التي يشاهدون فيها على تلك الحالات المزرية، ثم يتصورون ما ذا سيطلبون من إخوانهم المسلمين في البلدان الإسلامية....
ولست أريد من هذا التنبيه، تثبيط المسلمين عن إغاثة إخوانهم الذين تلك حالهم، حاشا... كيف وإغاثة الحيوانات – حتى الكلاب – يكتب الله بها الأجر لمن فعلها، ويغفر بها كبائر الذنوب؟
كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له) قالوا يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر) [البخاري برقم (2234) ومسلم برقم (2244)]
وروى كذلك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار، يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها) [مسلم برقم (2245)]
ومعنى "يُطيف" يدور حول البئر، ومعنى "أدلع لسانه" أخرجه لشدة العطش و"الموق" بضم الميم هو الخف فارسي معرب. ومعنى "نزعت له بموقها" استقت. [راجع شرح النووي على مسلم (14/242)]
أقول: لست أريد من هذا التنبيه، تثبيط المسلمين عن إغاثة إخوانهم الذين تلك حالهم، فهذا فرض يأثمون إذا تأخروا عن القيام به، ولكني أريد أن يهتموا بالمظلومين، قبل أن يصلوا إلى هذه الحالة.
هذا أحد ميادين السفر إلى الجنة، فليغتنمه المؤمنون الصادقون، وبخاصة في هذا الشهر الكريم.
--------------------------------------------------------------------------------
المجال الثامن : الصيام عن المعاصي
يعرف جمهور العلماء الصيام بأنه: الإمساك عن المفطرات في نهار رمضان، ويقصدون بالمفطرات: الطعام والشراب والجماع، وقد مضى في الحلقة الأولى.
وبناء على ذلك لا يبطل الصوم إلا بالمفطرات لثلاثة المذكورة...
وإذا ارتكب الصائم بعض الذنوب، كالغيبة والنميمة، والسب والضرب والسرقة، وشهادة الزور والكذب، فلا يكون مفطرا بذلك، وإن تضاعف إثمه في هذا الشهر الكريم... هذا هو مذهب جماهير العلماء...
قال النووي: " فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا الأوزاعي فقال يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه...." [المجموع (6/372-374)]
ويرى بعض العلماء، أن المعاصي تبطل الصوم، واستدلوا بأدلة:
منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [البخاري برقم (1804)]
ومنها حديثه – أيضا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر) [أحمد برقم (8843) والحاكم في المستدرك برقم (1571) وقال: ""هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" وذكره في مجمع الزوائد عن ابن عمر ((3/202) وقال: " رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون".
ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحدا وجهل عليك، فقل: إني صائم) المستدرك برقم (1570) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"
ومنها حديثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: .... والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ، ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم) [باختصار من البخاري (1795) ومسلم (1151)]
وقد جزم ابن حزم الظاهري رحمه الله، بأن الصائم إذا تعمد إتيان المعاصي، عالما بها، ذاكرا لصومه، بطل صومه، وذكر الأحاديث السابقة وغيرها، مستدلا بها على رأيه، كما ذكر من رأى ذلك من الصحابة والتابعين وغيرهم، وأطال الرد على المخالفين.
قال: "734 مسألة ويُبطل الصومَ أيضا تعمدُ كل معصية، أي معصية كانت لا تحاش، إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه، كمباشرة من لا يحل له، من أنثى أو ذكر، أو تقبيل امرأته وأمته المباحتين له، من أنثى أو ذكر، أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو غيرهما، أو كذب أو غيبة أو نميمة، أو تعمد ترك صلاة، أو ظلم ذلك من كل ما حرم على المرء فعله...." [المحلى (6/177)]
وفي المذهب الحنبلي قال أحمد: "لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم ... وذكر الشيخ تقي الدين وجها يفطر بغبة ونميمة ونحوهما، قال في الفروع فيتوجه منه احتمال يفطر بكل محرم، وقال أنس: إذا اغتاب الصائم أفطر، وعن إبراهيم قال: كانوا يقولون الكذب يفطر الصائم، وعن الأوزاعي أن من شاتم فسد صومه لظاهر النهي، وذكر بعض أصحابنا رواية يفطر بسماع الغيبه، وأسقط أبو الفرج ثوابه بالغيبة" المبدع (3/41)
وقد تأول الجمهور هذه الأحاديث بأن المراد منها زجر الصائم وتحذيره، من ارتكاب الآثام في هذا الشهر الفضيل، ليصون صومه مما يشوبه من المعاصي، ويكون كامل الثواب، وليس المراد بطلان صومه.
قال النووي: "وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث، بأن المراد أن كمال الصوم وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته عن اللغو والكلام الردىء، لا أن الصوم يبطل به... وأجاب عنه الماوردي والمتولي وغيرهما، بأن المراد بطلان الثواب، لا نفس الصوم" [المجموع (6/372-374)]
وقد أطال ابن حزم في الرد على هذا التأويل، فليراجعه من شاء.
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
ومهما يكن الأمر، فإن القائلين بصحة صوم مرتكب المعاصي، وعدم بطلان الصوم بها، إنما ينظرون إلى الحكم الفقهي الظاهر، وهو سقوط الحكم عن الصائم، ويبقى بعد ذلك قبول عمله عند ربه في واقع الأمر، الذي لا يجرؤ أحد على القول بقبول الله تعالى صيام من لم تصم جوارحه عن معاصي الله تعالى، فقد يحبط الله عمله، لجرأته على معصية الله، وانتهاكه لحرمة هذا الشهر الفضيل، وقد تزيد سيئاته في شهر رمضان على حسناته، فيخسر أجر صيامه وقيامه، فيكون كمن لم يصم رمضان، وهذا يكفي زاجرا للمسلم العاقل.
وإذا رجعنا إلى كتاب الله، وجدنا فيه أن العبادة التي يقوم بها المسلم، تؤدي إلى تقواه وتعينه على فعل طاعاته وترك معاصيه.
فقد أكد تعالى أن إقامة الصلاة على الوجه الشرعي الذي يرضي الله، تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فقال تعالى: ((اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)) [العنكبوت (45)]
والصلاة تطهر صاحبها من الذنوب والآثام، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء)؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)) [البخاري برقم (505) ومسلم برقم (667)]
وذكر تعالى أن المؤمن الذي يقوم بفريضة الحج، يجب أن يدع ما يفوت عليه كماله المفضي إلى فوات أجره أو نقصه، وأمر الحاج أن يتقيه تعالى ويتزود من تقواه، فقال تعالى: ((الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يا أولي الألباب )) [البقرة (197)]
ووعد الرسول صلى الله عليه وسلم، من حج واتقى الله في حجه، أنه يرجع من حجه طاهرا من الذنوب والآثام، وكأنه خرج لتوه من رحم أمه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ( من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) [البخاري (1449)]
وأشار تعالى في فرضه الصيام، أن من آثاره تقوى الله، فقال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة (183)]
وهؤلاء المتقون وحدهم هم المنتفعون بكتاب الله، والمهتدون بهداه، مع أنه نزل يدعو كل الناس إلى هدايته: كما قال تعالى في سياق آيات شهر رمضان: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)) [البقرة (185)] ولكنه في واقع الأمر ((هدى للمتقين)) [البقرة (2)]
وهؤلاء المتقون هم الذين يحبهم الله: ((فإن الله يحب المتقين)) [آل عمران (76)]
وهم وحدهم الذين يقبل الله أعمالهم: ((إنما يتقبل الله من المتقين)) [المائدة (27)]
وهم وحدهم المؤهلون لدخول الجنة: ((إن المتقين في جنات وعيون)) [الحجر(45)]
((وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين)) [النحل(30)]
وتقوى الله تدفع المؤمن إلى طاعته، وترك معاصيه، ولا يتأهل للسفر إلى الجنة إلا المتقون.
وهذا المعنى هو الذي يجب أن يجعله المؤمن هدفه من صيامه، وهو المزيد من طاعة الله، والطمع قبوله طاعته، والفوز بتقواه، ونيل ثوابه ورضاه، الوقاية من إحباط عمله بالبعد عن معاصي الله، ولا يقف به همه عند التفكير في صحة صيامه فقط، بل يكون من المتنافسين في طاعة الله، ليصل إلى درجات عباد الله الصالحين، يكوم ممن قال الله تعالى فيهم:
((إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين هم بربهم لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)) (61) [المؤمنون]
وإذا اقترف شيئا من المعاصي، فلا ييأس من رحمة الله وليجاهد نفسه، وليعزم على التوبة النصوح التي يبدل الله بها سيئاته حسنات:
((ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير)) [التحريم (8)]
((وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)) [الور (31)]
((التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)) [التوبة (112)]
((إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)) [البقرة (222)]
وفي هذه الحلقة نريد أن نذكر أنفسنا، بأنه لا يوجد مسلم في الأرض، بدون أن يكون له جيران محتاجون وكثير منهم يبيتون جياعا، والجار قد يكون قريبا من دار جاره، وقد يكون بعيدا، والقرب والبعد أمر نسبي، وذكر بعض العلماء أن حد الجيرة أربعون داراً من كل ناحية، ونقل عن آخرين أن من سمع النداء فهو جار. [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/185)].
وكلما كانت دار الجار أقرب إلى دار جاره، كان أهلها أكثر استحقاقا لإحسانه من غيرهم...
وبتصور هذا الحد يظهر أن الجيرة تشمل مدنا بأسرها، لأن الذي لا يكون جارا للمرء، يكون جارا لجاره، وهكذا، فإذا لم ينل المرء إحسان رجل لكونه ليس جارا له، ربما ناله إحسانه على يد جار المحسن، ماديا كان كالهدايا والهبات، أو معنويا كالتعليم والقدوة الحسنة والأخلاق الحميدة، فإن الجار يؤثر في جاره، وهذا يؤثر في جيرانه وهكذا.
تصور لو أن كل مسلم وأسرته اجتهدوا في إيصال إحسانهم إلى أربعين داراً من جيرانهم من جميع الجهات المحيطة بدارهم، وهذا الإحسان كما تقدم يشمل الإحسان المادي والإحسان المعنوي، كيف سيكون حال المجتمع الإسلامي في تعاونه وتحابه وأمنه؟
ومعلوم أن كثيرا من المحتاجين أعزاء نفوس، يصعب عليهم إظهار حاجتهم للناس، فضلا عن طلب الإحسان إليهم، وأمثال هؤلاء ينبغي لمن أغناهم الله من فضله، أن يطرقوا أبوابهم على غفلة من الناس، ويعطوهم من مال الله الذي آتاهم، بطريقة لا تشعرهم بالدون:
((للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)) [البقرة (273)]
قال القرطبي: "واختلف العلماء في معنى قوله ((لا يسألون الناس إلحافا)) على قولين: فقال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لايسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.
وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم أي يسألون غير ملحفين" [الجامع لأحكام القرآن (3/342)]
وقد خص البخاري رحمه الله، هذه الآية بباب مستقل، فقال: "باب قول الله تعالى لا يسألون الناس إلحافا.... لقول الله تعالى: ((للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله)) إلى قوله ((فإن الله به عليم)) ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى، ويستحيي أو لا يسأل الناس إلحافا) [صحيح البخاري برقم (1406) والحديث في صحيح مسلم (2/719) بلفظ:(ليس المسكين بالذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين المتعفف اقرؤا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافا)]
وليس المقصود عدم إعطاء السائل ولو ألحف، بل المقصود الاهتمام أكثر بغير السائلين، أو الذين يسألون على استحياء لشدة حاجتهم..
والأصل في الزكاة والصدقات أن تصرف في المحتاجين من أهل البلد، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (... فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم...) [البخاري برقم (1389) ومسلم برقم(19)]
وقد يفيض المال في بعض البلدان الإسلامية، أو يكون المسلمون في آخر، أشد ضرورة، من أهل البلد الزكاة والصدقة، فيجب أن يوازن بين المصالح، وتقدم أعظم المصلحتين، وبين المفاسد، فتدرأ أعظم المفسدتين.
ولإيضاح هذه المسألة لا بد من ذكر أمثلة واقعة في عصرنا هذا، لتطبيق الحكم الشرعي عليها:
إن الذي يشاهد أحوال المسلمين اليوم في فلسطين، فيرى أهلها وقد هدمت منازلهم، فلا يجدون المأوى في شدة الحر أو البرد، ويراهم يتضورون جوعا، نساء وأطفالا وشيوخا، فلا يجدون لقمة العيش، ويراهم وقد أثخنتهم الجراح، وفتكت بهم الأمراض، فلا يجدون الدواء، وأعداؤهم يقصفونهم ليلا ونهارا، بأشد الأسلحة فتكا، من البر والجو والبحر...
إن الذي يشاهد ذلك، ثم ينظر إلى كثير من بلدان المسلمين التي لا تخلو من فقراء ومحتاجين، ثم يوازن بين الجهتين، يجد أن المحتاجين في غير الشعب الفلسطيني يجد غالبهم ما يسد رمقه من الطعام، وما يكنه من المأوى الضروري.
لهذا يجب على أغنياء الأمة، أن يوازنوا بين الفئتين، فيعطوا أهل بلد الزكاة الحد الأدنى الذي يخفف حاجتهم، ويجتهدوا في إيصال غالب زكاتهم وصدقاتهم، إلى الشعب الفلسطيني الذي تلك حاله، فهو في حالة ضرورة وغيره في حالة حاجة، أو ضرورة أخف.
يضاف إلى ذلك أنهم يقومون بجهاد أعداء الله اليهود، الذين جهادهم فرض عين على جميع المسلمين، حتى يدفع عدوانهم، ويطردوا من الأرض المباركة التي احتلوها بغير حق...
تنبيه مهم جدا
ومما يجب التنبيه عليه، أن الجهاد في سبيل الله –خاصة في فلسطين-هو فرض عين اليوم على جميع المسلمين، ولكن عقبات كثيرة تمنع من يريد أن يجاهد بنفسه مباشرة في صف إخوانه الفلسطينيين، وأعظم تلك العقبات، حراسة الجيوش العربية لليهود، في الحدود المحيطة باليهود.
لهذا لم يبق إلا الجهاد بالمال، الذي لا عذر لمسلم قادر عليه، في تأخره عنه، فيجب على كل قادر أن يبذل ما يقدر عليه من المال، لنصرة إخوانه المجاهدين، الذين زلزلوا الأرض من تحت أقدام اليهود، في حدود إمكاناتهم الضعيفة، مع ما يملكه عدوهم من سلاح فتاك، وجيش قوي.
وكل مسلم قادر على إنفاق ماله في سبيل الله، لهؤلاء المجاهدين فهو آثم، ويجب أن يجتهد من يريد الإنفاق في سبيل الله، في وضع ماله في الأيدي الأمينة التي توصله إلى المجاهدين في سبيل الله.
ومعلوم ما يقوم به أهل العدوان وبخاصة لحكومة الأمريكية، من ملاحقة أهل الأموال الذين يعينون بها المجاهدين، ويسجلونهم في قائمة ما يسمونه "الإرهابيين" ويجمدون أموالهم، ويقومون باختطاف بعضهم أو اغتيالهم، ولكن هذا لا يسوغ لهم الكف عن إنفاق أموالهم في سبيل الله، وإعانة أولئك المجاهدين.
وإذا كانت أمريكا تتخذ وسائل قوتها، وتستعين على عدوانها بعملائها في كثير من البلدان الإسلامية، فالواجب على أغنياء الأمة أن يتخذوا كل حيلة تحبط مؤامرة المحاربين للإسلام والمسلمين، ولا بد إذا كانوا صادقين، أن يجدوا من المخارج ما يؤدون به الواجب الذي فرضه الله تعالى عليهم، وقد وعد الله المتقين من عباده، بأن يهيئ لهم مخرجا... كما قال تعالى: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجا)) [الطلاق (2)] ((ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا)) [الطلاق (4)]
وإنه لمن المؤسف، أن نرى كثيرا من الأغنياء، لا يهتمون في إنفاق أموالهم، إلا بإغاثة من سقط في حُفَر الجوع والعطش والمرض والتشريد، ولا يهتمون بهؤلاء قبل أن يسقطوا في تلك الحفر. كيف؟
إن كثيرا ممن يعانون من تلك الْمحن، كانوا من الأغنياء الأصحاء المستقرين في منازلهم، ولكنهم تعرضوا للعدوان من الظلمة المعتدين، كحال الفلسطينيين الذين اغتصب أرضهم اليهود، فقتلوهم، وشردوهم، وجرحوهم، وحاصروهم حتى أجاعوهم... وبعد أن وصلوا إلى هذه الحال، بدأ الأغنياء يهتمون بهم بعض الاهتمام، لإغاثتهم بالطعام والشراب والدواء...
ولو أنهم اهتموا بهم قبل أن ينال منهم العدو هذا النيل الظالم، فبذلوا لهم المال الذي يوفر لهم السلاح الذي لا خلاص لهم من العدوان بدونه، لكان لهم شأن آخر غير ماهم فيه الآن.
وهذه ظاهرة مؤلمة في الأمة الإسلامية، يرى كثير من أغنيائهم المظلوم المعتدى عليه، يهينه عدوه ويذله، وهو قادر على الدفاع عن نفسه، لو أتيح له العون المادي الذي يوفر له السلاح، فلا يلتفتون إلى نصرته بذلك، حتى إذا شرده العدو، وأصبح في حاجة إلى المأوى والطعام والشراب والدواء، تنادوا لجمع التبرعات، ليقيموا له الخيام، ويحضرون له ما تيس من أنواع الإغاثة...
أيهما أولى: وقاية المظلوم بعونه قبل أن يصل إلى هذه الحال السيئة، أم التفرج عليه وهو يهان ويذل ثم يقرب له حفنة من الأرز وقاروة من الماء؟
إني أحث أغنياء الأمة أن يضعوا أنفسهم مكان إخوانهم في فلسطين، في هذه الأيام المباركة، التي يشاهدون فيها على تلك الحالات المزرية، ثم يتصورون ما ذا سيطلبون من إخوانهم المسلمين في البلدان الإسلامية....
ولست أريد من هذا التنبيه، تثبيط المسلمين عن إغاثة إخوانهم الذين تلك حالهم، حاشا... كيف وإغاثة الحيوانات – حتى الكلاب – يكتب الله بها الأجر لمن فعلها، ويغفر بها كبائر الذنوب؟
كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له) قالوا يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر) [البخاري برقم (2234) ومسلم برقم (2244)]
وروى كذلك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار، يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها) [مسلم برقم (2245)]
ومعنى "يُطيف" يدور حول البئر، ومعنى "أدلع لسانه" أخرجه لشدة العطش و"الموق" بضم الميم هو الخف فارسي معرب. ومعنى "نزعت له بموقها" استقت. [راجع شرح النووي على مسلم (14/242)]
أقول: لست أريد من هذا التنبيه، تثبيط المسلمين عن إغاثة إخوانهم الذين تلك حالهم، فهذا فرض يأثمون إذا تأخروا عن القيام به، ولكني أريد أن يهتموا بالمظلومين، قبل أن يصلوا إلى هذه الحالة.
هذا أحد ميادين السفر إلى الجنة، فليغتنمه المؤمنون الصادقون، وبخاصة في هذا الشهر الكريم.
--------------------------------------------------------------------------------
المجال الثامن : الصيام عن المعاصي
يعرف جمهور العلماء الصيام بأنه: الإمساك عن المفطرات في نهار رمضان، ويقصدون بالمفطرات: الطعام والشراب والجماع، وقد مضى في الحلقة الأولى.
وبناء على ذلك لا يبطل الصوم إلا بالمفطرات لثلاثة المذكورة...
وإذا ارتكب الصائم بعض الذنوب، كالغيبة والنميمة، والسب والضرب والسرقة، وشهادة الزور والكذب، فلا يكون مفطرا بذلك، وإن تضاعف إثمه في هذا الشهر الكريم... هذا هو مذهب جماهير العلماء...
قال النووي: " فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا الأوزاعي فقال يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه...." [المجموع (6/372-374)]
ويرى بعض العلماء، أن المعاصي تبطل الصوم، واستدلوا بأدلة:
منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [البخاري برقم (1804)]
ومنها حديثه – أيضا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر) [أحمد برقم (8843) والحاكم في المستدرك برقم (1571) وقال: ""هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" وذكره في مجمع الزوائد عن ابن عمر ((3/202) وقال: " رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون".
ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحدا وجهل عليك، فقل: إني صائم) المستدرك برقم (1570) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"
ومنها حديثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: .... والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ، ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم) [باختصار من البخاري (1795) ومسلم (1151)]
وقد جزم ابن حزم الظاهري رحمه الله، بأن الصائم إذا تعمد إتيان المعاصي، عالما بها، ذاكرا لصومه، بطل صومه، وذكر الأحاديث السابقة وغيرها، مستدلا بها على رأيه، كما ذكر من رأى ذلك من الصحابة والتابعين وغيرهم، وأطال الرد على المخالفين.
قال: "734 مسألة ويُبطل الصومَ أيضا تعمدُ كل معصية، أي معصية كانت لا تحاش، إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه، كمباشرة من لا يحل له، من أنثى أو ذكر، أو تقبيل امرأته وأمته المباحتين له، من أنثى أو ذكر، أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو غيرهما، أو كذب أو غيبة أو نميمة، أو تعمد ترك صلاة، أو ظلم ذلك من كل ما حرم على المرء فعله...." [المحلى (6/177)]
وفي المذهب الحنبلي قال أحمد: "لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم ... وذكر الشيخ تقي الدين وجها يفطر بغبة ونميمة ونحوهما، قال في الفروع فيتوجه منه احتمال يفطر بكل محرم، وقال أنس: إذا اغتاب الصائم أفطر، وعن إبراهيم قال: كانوا يقولون الكذب يفطر الصائم، وعن الأوزاعي أن من شاتم فسد صومه لظاهر النهي، وذكر بعض أصحابنا رواية يفطر بسماع الغيبه، وأسقط أبو الفرج ثوابه بالغيبة" المبدع (3/41)
وقد تأول الجمهور هذه الأحاديث بأن المراد منها زجر الصائم وتحذيره، من ارتكاب الآثام في هذا الشهر الفضيل، ليصون صومه مما يشوبه من المعاصي، ويكون كامل الثواب، وليس المراد بطلان صومه.
قال النووي: "وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث، بأن المراد أن كمال الصوم وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته عن اللغو والكلام الردىء، لا أن الصوم يبطل به... وأجاب عنه الماوردي والمتولي وغيرهما، بأن المراد بطلان الثواب، لا نفس الصوم" [المجموع (6/372-374)]
وقد أطال ابن حزم في الرد على هذا التأويل، فليراجعه من شاء.
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
ومهما يكن الأمر، فإن القائلين بصحة صوم مرتكب المعاصي، وعدم بطلان الصوم بها، إنما ينظرون إلى الحكم الفقهي الظاهر، وهو سقوط الحكم عن الصائم، ويبقى بعد ذلك قبول عمله عند ربه في واقع الأمر، الذي لا يجرؤ أحد على القول بقبول الله تعالى صيام من لم تصم جوارحه عن معاصي الله تعالى، فقد يحبط الله عمله، لجرأته على معصية الله، وانتهاكه لحرمة هذا الشهر الفضيل، وقد تزيد سيئاته في شهر رمضان على حسناته، فيخسر أجر صيامه وقيامه، فيكون كمن لم يصم رمضان، وهذا يكفي زاجرا للمسلم العاقل.
وإذا رجعنا إلى كتاب الله، وجدنا فيه أن العبادة التي يقوم بها المسلم، تؤدي إلى تقواه وتعينه على فعل طاعاته وترك معاصيه.
فقد أكد تعالى أن إقامة الصلاة على الوجه الشرعي الذي يرضي الله، تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فقال تعالى: ((اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)) [العنكبوت (45)]
والصلاة تطهر صاحبها من الذنوب والآثام، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء)؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)) [البخاري برقم (505) ومسلم برقم (667)]
وذكر تعالى أن المؤمن الذي يقوم بفريضة الحج، يجب أن يدع ما يفوت عليه كماله المفضي إلى فوات أجره أو نقصه، وأمر الحاج أن يتقيه تعالى ويتزود من تقواه، فقال تعالى: ((الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يا أولي الألباب )) [البقرة (197)]
ووعد الرسول صلى الله عليه وسلم، من حج واتقى الله في حجه، أنه يرجع من حجه طاهرا من الذنوب والآثام، وكأنه خرج لتوه من رحم أمه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ( من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) [البخاري (1449)]
وأشار تعالى في فرضه الصيام، أن من آثاره تقوى الله، فقال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة (183)]
وهؤلاء المتقون وحدهم هم المنتفعون بكتاب الله، والمهتدون بهداه، مع أنه نزل يدعو كل الناس إلى هدايته: كما قال تعالى في سياق آيات شهر رمضان: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)) [البقرة (185)] ولكنه في واقع الأمر ((هدى للمتقين)) [البقرة (2)]
وهؤلاء المتقون هم الذين يحبهم الله: ((فإن الله يحب المتقين)) [آل عمران (76)]
وهم وحدهم الذين يقبل الله أعمالهم: ((إنما يتقبل الله من المتقين)) [المائدة (27)]
وهم وحدهم المؤهلون لدخول الجنة: ((إن المتقين في جنات وعيون)) [الحجر(45)]
((وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين)) [النحل(30)]
وتقوى الله تدفع المؤمن إلى طاعته، وترك معاصيه، ولا يتأهل للسفر إلى الجنة إلا المتقون.
وهذا المعنى هو الذي يجب أن يجعله المؤمن هدفه من صيامه، وهو المزيد من طاعة الله، والطمع قبوله طاعته، والفوز بتقواه، ونيل ثوابه ورضاه، الوقاية من إحباط عمله بالبعد عن معاصي الله، ولا يقف به همه عند التفكير في صحة صيامه فقط، بل يكون من المتنافسين في طاعة الله، ليصل إلى درجات عباد الله الصالحين، يكوم ممن قال الله تعالى فيهم:
((إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين هم بربهم لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)) (61) [المؤمنون]
وإذا اقترف شيئا من المعاصي، فلا ييأس من رحمة الله وليجاهد نفسه، وليعزم على التوبة النصوح التي يبدل الله بها سيئاته حسنات:
((ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير)) [التحريم (8)]
((وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)) [الور (31)]
((التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)) [التوبة (112)]
((إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)) [البقرة (222)]