في إحدى الليالي .. وعلى الطريق السريع .. كانت إحدى الدوريات الأمنية تجوب منطقة عملها كالمعتا ..
غسق الليل داكن .. كل شيء ساكن .. إذ أبصر أحد أفراد الدورية حالة غير عادية .. سيارة على الطريق .. تضطرب في سيرها .. تـَزَاوَر ذات اليمين وذات الشمال .. كأنما هي خامة زرع تفيئها الريح .. أو قنبلة موقوتة تتدحرج بين سالكي الطريق .
تتابع الدورية الموقف بحذر .. وما هي إلا لحظات حتى توقفت السيارة على جانب الطريق.. تقترب الدورية الأمنية من السيارة، وتتوقف بقربها للتحقق من أمرها .. يتقدم رجل الأمن إلى السيارة وإذا بالمفاجأة المدهشة .. رجل مسن يقبع خلف المقود .. فاقد الوعي .. غائب العقل .. يسبح في عالم الخيال .. تحسبه ميتاً وما هو بميت .
يفتح رجل الأمن الباب فتقع عينـاه على كيس أبيض بين يدي العجوز .. ينظر في الكيس فيفجع بإبر الهيروين المسمومة .. تنكشف أوراق القضية .. فيقبض على العجوز ، ويقاد إلى جهة التوقيف .
كنت وقتها في مكتبي ، فأحيلت إليَّ القضية .. تصفحت الأوراق ثم قمت باستدعاء المتهم .. بعد لحظات تم إحضاره .. رفعت رأسي .. نظرت إلى المتهم .. حملقت بعيني في وجهه .. ويا لهول المنظر ! .
شيخٌ كبير .. ابيضَّ شعره.. وعبس وجهه.. وتساقطت أسنانه .. وانسدلت حواجبه على عينيه .. رُحماك ربي .. ما هذه القضية التي بُليت بها ؟ على كل حال ، بدأت الأسئلة :
- اسمك ؟ .. .. ..
- عمرك ؟ خمسة و أربعون عاماً !
- الحالة الاجتماعية ؟ متزوج .
- عدد أولادك ؟ سبعة أطفال !!
إجابات مُرّة .. أحدثت في قلبي عاصفة من الدهشة والأسف .. ولكن .. كان التحقيق يفرض علي أن أتمالك نفسي في هذه اللحظة .. واستمرت جلسة التحقيق ، وفي النهاية كان الشيخ قد اعترف بكل ما نسب إليه .
لم يبق إلا السؤال المحير : ما قصة هذا الرجل ؟ سألته .. فأجابني بمسلسل محزن من الأحداث المؤلمة .. يقول : قبل سنوات طويلة .. عشت أيام الصبا .. نزيهاً عن المنكرات .. بعيداً عن الترهات .. ثم تزوجت بامرأة رزقت منها بعدة أولاد .
وبعد سنوات .. وجـدت نفســـي بين ثلة من الشبـاب .. كنت أجلس معهم وأثق بهم لأني لم أر فيهم ما يثير الريبة .. ومع ظروف الحياة .. احتجت يوماً إلى بعـض المال .. ضـاقت بي السبل فلم أجد بداً من عرض سيارتي للبيع .
ويعلم أحد رفاقي بحالي ، فيطلب مني شراء السيارة .. اتفقنا على البيع .. ودفع إلي الثمن عدا عشرة آلاف ريال طلب مني تأجيلها إلى أجل قريب .. أجبته لذلك مراعاة لحق الصحبة .
مضت الأيام .. والصديق المزعوم يماطل يوماً بعد يوم .. وفي ليلة حمراء .. كان صاحبي يتعاطى الحشيش المخدر مع أحد رفاقه .. لم أكن أتصور أني سأتعاطى الحشيش معهم بأي حال من الأحوال .
وبعد لحظات معدودة .. إذ بالصديق يعرض عليَّ بكل جرأة أن أجرّب الحشيش ! ترددت في بادئ الأمر .. لكن مع إلحاح صديقي وضعف إرادتي بدأت أتعاطى الحشيش .. وبعد عدة جلسات دخلت عالم الإدمان .
وليت الأمر توقف عند الحشيش .. إذاً لهانت المصيبة .. بل لا زال بي سدنة المخدرات حتى أوقعوني في شراك الهيروين .. وذات يوم طلبت من صاحبي أن يسدد المبلغ الذي في ذمته .. فاعتذر لي بقلة الحال ..
ولما رأى إصراري على التسديد عرض علي أن يعطيني كمية من الهيروين مقابل جزء من المبلغ .. وافقت بلا تردد .. فقد كنت أنفق المال الذي بيدي هباءً منثوراً في مقابل الهيروين .. فكيف بما في يد غيري ؟ .
وبمرور الأيام .. كان صاحبي يمدني بالهيروين .. والرصيد يتناقص يوماً بعد يوم ، حتى انقلبت الآية .. فجرعات الهيروين استنفدت الدَّين وزيادة ، حتى صار الدائن مديناً .
لقد تحطمت حياتي .. وافتقرت أسرتي .. ولم يمهلني الله طويلاً حتى قُبضَ عليّ .. فهاأنذا اليوم مسلسل بالقيود .. مكبل بالهموم .. انفجرت في وجهه و قلت لـه : أنت رجل كبير ، و ذو سبعة عيال فكيف رضيت لنفسك أن تتعاطى هذه السموم ؟ ألا تتقي الله ؟
أيسرك أن يأتي إليك أحد أولادك الصغار ويقول : يا والدي .. أقلِع عن المخدرات ؟ نظرت إليه وإذا دموعه تسيل على خديه المتجعدين .. ثم قال بنبرة حزينة متقطعة : والله يا سامي إني أذهب أحياناً لتعاطي إبرة الهيروين .. فأتذكر أولادي .. والإبرة في يدي .. فأبكي بكاءً شديداً .
لكن ماذا أفعل وقد تمكّن الهيروين من جسدي ؟ وفي هذه اللحظات المحزنة .. كنت أحاول إقناع الشيخ بالعلاج وحتمية الإقلاع عن المخدرات والإنابة إلى الله تعالى ، عسى الله أن يختم له بخاتمة حسنة ، تكفر عنه ما سلف من العصيان .
أُحيل الشيخ إلى السجن العام وقضى محكوميته هناك .. ثم أفرج عنه ومضى إلى سبيله .. وبعد سنوات انتقلت من عملي إلى فرع آخر من فروع مكافحة المخدرات في مدينة أخرى ..
وبعد مضي سنة في هذه المدينة ، قام أحد مدمني المخدرات باقتحام أحد المنازل ، وأخذ يهدد أهله بالسلاح ، إلا أن لُطف الله حالَ دون إضراره بهم ، وسرعان ما تم القبض عليه ، وأحيلت قضيته إلى أحد زملائي المحققين في القسم الذي أعمل فيه .
وفي صبيحة ذلك اليوم دخلت المكتب .. وإذا بالمتهم ماثل أمام زميلي في جانب الغرفة .. لم أحفل بالنظر في وجه المتهم .. تقدمت صوب زميلي وهو يناقش المتهم حول قضيته ..
وفجأة .. لم أشعر إلا وصوت أرعن لا يمكن أن أنساه يقرع سمعي .. التفتّ سريعاً .. حملقت بعيني في وجه المتهم الجديد .. فإذا هو الشيخ القديم .. مدمن الهيروين .
لقد دارت به الدنيا وانتقل إلى هذه المدينة .. لكنه لا زال على تمرده وإجرامه .. لم أتمالك نفسي عندما رأيته .. ذكّرته بأيامه الماضية .. عاتبته على إصراره وتمرده .
لم يكن هذا الأشيمط لينتصح أو يزدجر ، بل أخذته العزة بالإثم .. فأزبد وأرعد ، وقال بكل جرأة : أنا بريء .. وأنتم الذين تظلمونني .
عرفت حينها أن الرجل قد انحرفت فطرته وفسد قلبه ، حتى أخذ يبرر أفعاله الشنيعة ، ويتنصل منها .. خرجت من المكتب وكلي أسف على هذا الشيخ الكبير الذي غلبه هواه ، واستهواه شيطانه ، على تقدم في عمره ، وقرب من أجله ..
ومع حرارة الموقف وشدة التأنيب ،
Lilyan