في غزة.. مأساة رُضع يعيشون بظهور مفتوحة
غزة- وحدة الإعلام
يكسو ثوب ثلجي رضيعة لم تتجاوز أيامها عدد أصابع يديها الهشتين، تبدو البراءة جلية في عينيها الصغيرتين، لا تكاد خصال شعرها ناعمة الملمس تغطي نصف رأسها، تنحني يمينا داخل صندوق زجاجي، في غرفة يطلق عليها اسم "الحضانة" بمستشفى الشفاء في غزة.
في أركان الغرفة تسمع همسات الرضيعة "أية.ص" وهي هائمة على جنبها، يغلبها النوم، بين الفينة والأخرى يطغى على همساتها أنين رضيعتين أخريين هما "آلاء.ح" "حلا.ص"، يعانين جميعهم من فجوات خلقية في أظهرهن..آلامهن تجعل نحيبهن يدوي في قسم "جراحة الأطفال".
بالكاد استطاعت والدة آية حملها وهي تتحسس ببطء جوانبها السليمة، وتقول "إنها تخشى لمس ظهرها ذي الفجوة الطولية المتسعة، فلا يزال نخاعها الشوكي خارج جسدها، يغطيه فقط قطع من الشاش المعقم، وضعه أطباء بعدما أجروا لها عملية جراحية للملمة الجلد المبعثر".
احتضنت الأم رضيعتها بين يديها و هي تحبس دموعها في عينيها.. صمتت قليلا ثم قالت "إنها تقف عاجزة أمام فعل شيء لهذا الجسد الهزيل الذي يعني مأساة بألوان مختلفة، بدءاً من عمليات تجميع الجلد، وليس انتهاءً، بالشلل النصفي الدائم".
شعور مفقود
تتحسس الأم سيقان رضيعتها الرفيعتين اللتين لا تتحركان، وتقول :"كما ترى يبدو أنها لا تشعر بسيقانها.. إلى متى سنبقى نعيش على حقن الأطباء المخدرة لنا بالقول أن لدينا الإمكانات لمعالجتها!!".
يشار إلى أن هذه هي الحالة العاشرة التي تعاني من تشوه خلقي، بقطاع غزة، ويرفض الأطباء منحها تحويلة للعلاج بالخارج، متذرعين بأن لديهم إمكانات كافية لمعالجتها، في حين أن الأهالي يتهمونهم بضعف الإمكانات.
تجمعن نسوة ثلاثة هن أمهات للرضيعات المتواجدات في حضانة الشفاء، ليخبرن عن معاناتهن، وتقول أحدهن وهي ترتدي نقابا أسوداً يغطي وجهها :"وضعت طفلتي منذ ثمانية أشهر، بتشوه خلقي في الظهر، ومنذ ذلك الحين وأنا أتنقل بها بين الحضانة والبيت".
بدت الدموع ترتسم في عيون الوالدة الثلاثينية، وهي تشير بالسبابة إلى رأس طفلتها حلا وتفصح "من أعراض هذه الفجوة هو تسرب مياه إلى الدماغ، مما يتسبب في كبر حجم الرأس..ألم تر أن حجم الرأس غير متناسق مع الجسم؟".
وتضيف الوالدة المحزونة ويدها لم تبرح جسد رضيعتها الشقراء "الأطباء قاموا بتركيب أنبوب في الرأس، ليساعد على تصريف المياه المتسربة، لكن المأساة أن الأنبوب يسد بين فترة وأخرى، وفي كل مرة تجرى لها عملية جراحية جديدة..لا أدري كيف ستحتمل رضيعتي كل هذه العمليات".
في الجانب الأيمن من الغرفة وقفت والدة الصغيرة آلاء بجانبها، وهي تشير إليها "الحمد لله أن الفجوة الخلقية في ظهر طفلتي تعد من اقل الفجوات اتساعا وتكاد تكون صغيرة مقارنة بغيرها، لكنها تعاني الأمرين".
انحنت الوالدة على رضيعتها التي لم تبلغ العشرين يوما، وأخذت تنزع بكل رأفة (الشاش المعقم) عن ظهرها، حتى برزت معالم يصعب تخيلها، سيما أن (خيوط العملية الجراحية) لا تزال حاضرة لأن الفجوة لم تلتئم بعد.
تلعثمت والدة آلاء قليلا، ثم تجرأت على آلامها، وقالت :"كيف ستقوى هذه الرضيعة على عمليات ترقيع الجلد، أليس خروجها من هنا أفضل بكثير، لتعالج في أماكن ذات إمكانات اكبر؟".
قبل أن تكمل الأم حديثها، قاطعتها والدة الرضيعة حلا "بعد خمسة عشر يوما من إجراء عملية جراحية لطفلتي، عمل الأطباء المعالجون فحوصات مجددة لها، فوجدوا أن النتيجة سلبية، فلماذا تبقى طفلتي حقلاً للتجارب؟".
جمعت الوالدة الشابة قواها وأضافت :"طفلتي لن تعاني فقط من شلل مستقبلا، بل ربما تعاني من فشل كلوي بسبب انحباس البول في المثانى ..طالبت إدارة المشفى بالحصول على تحويلة لأعالجها على نفقتي الخاصة بالخارج ..أريد أن يرتاح ضميري".
جدير بالذكر أن وزارة الصحة الفلسطينية أصدرت قرارا بإعطاء تحويلات مرضية، فقط للمرضى المصابين بالسرطان. ويتهم ذوو الرضع الثلاثة، الأطباء بالتقصير في التعامل مع أبنائهم، خاصة وأنهم يعانون من تقرحات حول الجرح والتهابات متزايدة، الأمر الذي يدفعهم بالمطالبة بتحويلهم للعلاج بالخارج.
وينظر الأطباء لهذه الحالات على أن نسبة تحسنها ضعيفة، خاصة وأنها تعاني من تشوهات في العمود الفقري والمخ ولديها إعاقات في الأطراف، إضافة إلى ضعف المناعة، ويقول د.حازم كحيل أحد الأطباء المشرفين على الحالات الثلاثة :"نحن فقط نجري عمليات إغلاق للأغشية، وأطباء التجميل يقومون بإغلاق الجلد..في كل الأحوال ليس بالإمكان إجراء عمليات أعصاب، لا بغزة ولا بالخارج".
وأضاف د.كحيل "التعامل مع مثل هذه الحالات صعب ومحدود، لا يوجد لهم حل في كل العالم، لأن الأعصاب غير مخلوقة أصلا".
ويعقب على مطالبة الأهل بالحصول على تحويلة لمعالجة أطفالهم بالخارج على نفقتهم الخاصة، بالقول: "الوزارة لا تسمح بذلك، فقط كل ما تسمح به هو العلاج على نفقة الوزارة نفسها، ولحالات معينة".